هل تملك البشرية معرفة حقيقية تُثبت هذا القانون الغامض الذي يقال إنه يحكم مصائر الناس؟
يبقى السؤال الأهم: إن كانت العدالة الأرضية تتعثر وتغيب الموازين، فهل حقًا هناك عدالة كونية خفية تُعيد لكل إنسان ما يستحقه؟
حين تضيع الموازين وتُصاب العدالة بالعمى، يبحث الإنسان عن قاضٍ لا يخطئ، وعن ميزانٍ لا يميل. وهناك، في عمق الحاجة إلى الإنصاف، تولد فكرة الكارما؛ تلك العدالة الكونية التي يُقال إنها تعمل في صمتٍ مطبق، وتعيد للعالم توازنه كلما اختلّ. يراها البعض اليد الخفية التي لا تغفل عن ظلمٍ ولا تُضيع حقًا، فيطمئن المظلوم إلى أن الأيام ستدور، ويهمس لنفسه: "الكون لا ينسى، الدائرة ستكتمل".
لكن حين نعيد النظر بعيونٍ واقعية، نجد أن ما يُسمى بـ"عدالة الكارما" ليس دقيقًا كما يظنه المؤمنون بها. فالخير لا يُكافأ دائمًا، والشر لا يُعاقب في معظم الأحيان. العالم لا يبدو محكومًا بقانون كوني منظم بقدر ما هو خاضع لردود أفعال بشرية متقلبة. نحن نميل إلى معاملة الآخرين كما يعاملوننا، نكافئ أو نعاقب بزيادة أو نقصان، فنخلق لأنفسنا وهم النظام، بينما هو في الحقيقة مجرد تفاعل نفسي لا أكثر.
والواقع يؤكد أن نتائج الأفعال لا ترتبط بالضرورة بنوايا أصحابها. فالحظ، والظروف، والصدف العابرة، تلعب أدوارًا أكبر بكثير مما تلعبه العدالة المفترضة. غير أن أنصار الكارما يهربون من هذا المأزق بقولهم إن العدل الغائب في هذه الحياة سيظهر في حياةٍ أخرى، بعد الموت. لكن هذا الافتراض يفتح بابًا لا يُغلق من الأسئلة: ماذا لو كانت الحياة التالية بدورها غير عادلة؟ هل سنحتاج إذن إلى حياة ثالثة لتصحيح ظلم الثانية؟ وهكذا نظل ندور في سلسلةٍ لا تنتهي من الولادات والموتات، فقط لإنقاذ الفكرة من السقوط!
بل إن فكرة التقمص أو العودة للحياة لا تبدو سوى محاولة إضافية لترميم النظرية الأصلية. فهي لا تقوم على برهانٍ ولا على تجربةٍ يمكن اختبارها، بل على فرضٍ فوق فرض. فبأي منطقٍ نقول إن الروح تعود لتنال جزاءها؟ ولماذا لا تعود بلا جزاء أصلًا؟ إننا في هذه الحالة نضيف طبقاتٍ من الخيال فوق أخرى، دون أن نقترب من اليقين قيد أنملة.
ثم تأتي معضلةٌ أخرى أكثر تعقيدًا: ليست كل القيم قابلةً للقياس أو الموازنة. كيف يمكن أن نساوي بين ألمٍ نفسي وخسارةٍ مالية؟ أشار الاقتصادي والفيلسوف جون ماينارد كينز إلى أن التعويض المادي عن الضرر المعنوي لا يمكن أن يكون عادلًا في جوهره، لأنه ببساطة يقيس ما لا يُقاس. وكذلك الكارما، فكيف يُمكن أن يكون الثواب أو العقاب في حياةٍ أخرى مكافئًا حقًا لفعلٍ ارتُكب في هذه الحياة؟ لا يوجد مقياس واحد يجمع بين نوعين مختلفين من القيم الإنسانية.
إذن، ما الذي يجعلنا نؤمن بالكارما؟ ربما لأنها تمنحنا عزاءً في وجه العبث. حتى لو بدت أحيانًا وكأنها تعمل بدقةٍ مذهلة، فالأمر قد لا يكون أكثر من مصادفةٍ أو إسقاطٍ نفسي. الإيمان بها دون تفسيرٍ منطقي يُضعف التفكير الحر، ويجعلنا نستبدل البحث بالتسليم، والعقل بالرجاء. ولو افترضنا وجود عدالةٍ سماوية خالصة، تُكافئ وتُعاقب، فهل تكون سوى محاولة لتهدئة الجرح الإنساني العميق؟ ربما الكارما ليست سوى «مسكّنٍ روحي» لا أكثر.
ومن هنا ينتقل النقاش من ميدان المعرفة إلى ميدان الأخلاق. فحتى لو لم تكن الكارما حقيقية، فربما قيمتها لا تكمن في صدقها بل في إلهامها. هي تذكيرٌ بأن العدالة غايةٌ نسعى إليها، لا واقعٌ نعيشه. فكرة مثالية تشحذ ضمير الإنسان، حتى وإن كانت في ذاتها وهمًا جميلًا.
لكن هل الكارما هي النموذج الأخلاقي الأعلى الذي يجب أن نطمح إليه؟ الجواب – كما قال المسيح وبوذا –هو لا. كلاهما دعا إلى تجاوز مبدأ "العين بالعين"، وإلى الرد على الشر بالخير لا بمزيدٍ من الشر. لم يأتيا لتأكيد قانون الكارما، بل لتجاوزه. فالكرامة الحقيقية لا تكمن في المعاملة بالمثل، بل في التحرر من دورة الانتقام والثواب والعقاب.
وفي نهاية المطاف، قد لا تكون الكارما قانونًا كونيًا بالمعنى الحرفي، لكنها تظل مرآةً تعكس توق الإنسان إلى العدالة المفقودة. هي رمزٌ لما يجب تجاوزه لا التمسك به، ووهمٌ جميل لا يُنقص من جماله أنه وهم. فربما لا نحتاج إلى قانونٍ غيبيٍ ليجعلنا أفضل، يكفينا أن نؤمن بما هو أسمى منه: الرحمة، والغفران، والوعي.
ومع ذلك… يظلّ السؤال معلّقًا في أفق التأمل: أهي الكارما إيمانٌ بالقدر، أم تجربة تكشف عدل الحياة الخفيّ؟ خيطٌ من الدهشة يسير عليه الإنسان، ليكتشف أن ما يفعله يعود إليه يومًا كصدى لقلبٍ غافل. إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موعدنا في حديث الأسبوع المقبل، حيث نقترب أكثر من سرّ الكارما وعدل الحياة الذي لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالقلب.
[email protected]